الأربعاء، 9 مارس 2011

العبيد في بلدي لا يثورون ليتحرروا ولكنهم يثورون ليغيروا قيودهم وسادتهم ومواقعهم في سلك العبيد

ولد فأراً وفقراً .. ولم يلد فَجراً !!
بقلم : محمد أبوكريشة
Mabokraisha@yahoo.com
Mabokraisha@hotmail।com
"فين الأمير أقطاي؟ مات॥ فين الأمير عزالدين أيبك؟ مات.. فين الست اللي بتحكم مصر؟ الملكة العظيمة شجرة الدر ماتت.. طب أكلم مين لما أحب أخاطب شعب مصر؟" هذا الحوار دار في فيلم "وا إسلاماه" بين رسول هولاكو قائد التتار.. والأمير سيف الدين قطز الذي لعب دوره الفنان الراحل أحمد مظهر.. انه حوار موح ومؤلم يلح علي الآن بشدة.. أردده كل لحظة.. أسمعه يرن في أذني كل ثانية.. وتتسارع دقات قلبي عندما أصل إلي السؤال الأخير والخطير في الحوار: "وأكلم مين لما أحب أخاطب شعب مصر؟".. انه سؤال اللحظة.. سؤال الأيام الحالكة السواد التي نعيشها الآن ويبدو اننا سنظل نعيشها طويلا.. وأخشي أن يكون القادم أسوأ.. وان الشعب المسحوق سيظل يغسل أكثر سوادا في قابل الأيام.

بلد بلا كبير.. "بلد مالهاش عمدة" علي رأي أبي رحمه الله لا أحد يسمعك وانت لا تسمع أحداً أري كثيراًً ولكن لا أري أحداً.. أسمع كثيراً ولكني لا أسمع أحداً.. ابحث في كل الأسواق عن كبير لأشتريه ولكن "الكبار خلصوا".. ربما نجد أنفسنا مضطرين إلي استيراد كبير.. ربما نجد أنفسنا في مباراة صعبة تضطرنا لاستقدام حكم أجنبي.. وتنتهي المباراة بهزيمة كل الفرق المتصارعة علي كأس الثورة.. وفوز الحكم الأجنبي وحده.. الحقيقة الوحيدة الآن هي اللا حقيقة.. لا توجد في مصر حقائق الآن.. لا توجد اجابة لأي سؤال.. هناك عمليات قرصنة وخطف لكل الطائرات.. طائرة السياسة وطائرة الصحافة والإعلام وطائرة ميدان التحرير.. وطائرة الثورة.. ووقود كل الطائرات يوشك علي النفاد وهي هائمة في الجو لا يدري خاطفوها ولا ركابها أين ستهبط أو ستسقط بهم.
الفوضي هي العنوان العريض لكل شيء في بلدي.. وفي الفوضي والزحام والضوضاء وخطف الطائرات والكاميرات والأضواء يصعب الفرز والانتقاء والانتخاب والاختيار.. سنعود إلي المربع صفر.. سيركب الموجة أيضاً فاسدون ولصوص وخاطفون وقراصنة.. والرهان علي اننا سنبلغ الرشد بعد حين ونسترد هدوءنا ونلتقط أنفاسنا ونعيد النظر.. رهان يبدو لي خاسرا.. فنحن فيما يسمي الشرعية الثورية منذ ستين عاما وكانت دساتيرنا وقوانيننا علي مدي الستين عاما حبرا علي ورق.. أكلتها الشرعية الثورية التي أنبتت فوضي ومحاسيب وأهل ثقة وخدما لا رأي لهم في اختيار السيد.. هم يخدمون أي سيد.. يتغير السادة ولا يتغير الخدم.. الخدم تتغير مواقعهم ولا تتغير صفاتهم.. هم خدم في كل الأحوال ومهما تغير السادة.. فالوصيفة للهانم القديمة.. تصبح خادمة مطبخ في عهد الهانم الجديدة.. وخادم البهائم في عهد السيد القديم يترقي إلي خادم أطفال في عهد السيد الجديد.. والذين أبعدهم النظام السابق من القصر إلي الزريبة يعيدهم اللانظام الحالي من الزريبة إلي القصر.. والذين كانوا في قصر النظام السابق.. يبعدهم اللانظام الحالي إلي الزريبة.. لكنهم في كل الأحوال خدم.. خادم.. خادم أول.. خادم ثان.. باشخادم. "ماتفرقش".. المهم انهم يخدمون كل سيد وكل نظام وكل لا نظام أيضاً.
والخدم في كل أنحاء مصر يتصارعون الآن علي ترتيب أوضاعهم في انتظار السيد والكبير الذي لم يأت بعد.. ولا أحد منهم يعرف أن كان السيد القادم محليا أم أجنبيا.. العبيد في بلدي لا يثورون ليتحرروا ولكنهم يثورون ليغيروا قيودهم وسادتهم ومواقعهم في سلك العبيد.. الظلمة في بلدي يتغيرون ولكن المظلومين لا يتغيرون.. المسحوقون في بلدي يغسلون أكثر سوادا مع كل سيد.. الثورات في بلدي وفي كل بلاد العرب لا تغير أوضاعا.. ولكنها تغير وجوها.. العرب لا يثورون إلي الأمام ولا إلي الخلف ولكن يثورون داخل أحذيتهم.. السادة لا يغيرون طبائعهم ولا يغيرون نظرتهم للأمور ولكن يغيرون أحذيتهم وجواربهم.. ونحن دائماً أحذيتهم وجواربهم.
الديكتاتورية كما هي لكن المستبدين والديكتاتوريين يتغيرون كما يقول صديقي عصام مصطفي.. شريحة واسعة من شيوخ ورجال ونساء مصر وأطفالها أيضاً تشعر بغصة ومرارة في الحلوق.. ولا تري علاجا ولا مخرجا كما يقول صديقي القاضي أشرف حسن.. قطاع عريض من الشعب يلتزم الصمت.. والسكوت ليس رضا ولكنه سخط.. كما يري صديقاي العزيزان محمود الجندي وخالد الجرف.. الثقة مفقودة بين الجميع.. وكل بناء عندنا آيل للسقوط.. والوزير يعمل تحت فزاعة ميدان التحرير.. وأهل الميدان أعجبهم الحال.. والناس في بلدي غير قادرين علي البوح ولا النوح كما يقول صديقي عماد سعيد حزين.
تتعدد الأسباب والموت واحد.. لا يهم كيف نموت مادامت النتيجة اننا سنموت.. الشعب كان ينافق النظام زمان.. واللانظام الآن هو الذي ينافق الشعب.. النفاق زمان "كان طالع".. والآن النفاق نازل من فوق.. واتجاه النفاق لا يهم.. ولكن المهم انه موجود وينمو ويترعرع.
* * *
الدولة الافتراضية عندنا "علي رأسها بطحة".. هي ليست دولة فعل ولكنها دولة رد فعل.. ليست دولة صوت ولكنها دولة صدي.. تستجيب وتلبي وتنقاد ولا تقود.. نخاف ولا نخيف.. دولة فيس بوك.. وتوك شو.. كنا نخاف من وجود أجندات خارجية أو أجندات خاصة.. لكننا نخاف الآن ما هو أخطر.. أكاد أجزم الآن بأنه لا توجد أجندات علي الاطلاق سوي أجندة الفوضي.. الثورة بلا أجندة والدولة بلا أجندة والشعب بلا أجندة والإعلام بلا أجندة.. أراهن أي طرف أن يعرف ماذا سيحدث بعد ساعة.. بعد يوم.. بعد أسبوع.. الأجندة تعني انك تعرف ما انت مقدم عليه.. تعني انك تلعب بالأحداث.. لكن الذي يحدث اليوم اننا لا نعرف ما الذي سيحدث.. وان الأحداث تلعب بنا.. واننا نجري إلي ما لا ندري.. نحن نعرف الجريمة لكننا لا نعرف المجرم.. لا نعرف من بيده الأمر "ولله الأمر من قبل ومن بعد".. لا نعرف من بيده الثواب والعقاب.. لم نعد حتي نتحدث عن أيد خفية أو مؤامرة.. فنحن لا نري سوي أيد مغلولة وعقول مشلولة وألسنة "عايزة قطعها" وأقلام "عايزة كسرها".
مصر التي بدت قدوة وأسوة حسنة يوم 25 يناير تتحول الآن إلي عبرة وعظة.. كان الناس يتمنون الاقتداء بمصر والآن يقولون: "اتعظوا واعتبروا مما يجري في مصر".. السيناريو الوحيد اليوم هو الفوضي.. والأجندة الماثلة هي الضبابية والشبورة والمسحوق الذي يغسل أكثر سوادا.
حاول صديقي أن يبث في نفسي التفاؤل وقال: لابد أن نصبر علي الفوضي ونصمد أمام الشبورة.. فذلك التفاعل سيؤدي إلي الفرز في نهاية المطاف.. لكنه لم يفلح لأنني لست مقتنعا أبداً بأن الفوضي ستقود إلي نظام أو ستؤدي إلي الفرز.. الفوضي لا تميز الخبيث من الطيب.. والزبد في الفوضي لن يذهب جفاء.. بل هو الذي سيمكث في أرضنا.. من المضحك المبكي أن يهرول رئيس وزراء مكلف إلي ميدان التحرير ليأخذ شرعيته منه.. فميدان التحرير ليس مصر والذين أعجبتهم الاقامة هناك ليسوا كل شعب مصر.. لكن أول قصيدة شرف كفر.. فمعني ذلك ان من جاء بمظاهرة يمكن أن يرحل بمظاهرة.. ولا أحد يستطيع أن يؤدي عمله وهو تحت ضغط حفنة في ميدان التحرير مهما كان حسن نواياهم وبراءتهم.. وفي ميدان التحرير الآن نواة أو ارهاصات لديكتاتورية جديدة واستبداد من نوع مختلف عن استبداد النظام السابق.. نفس منهج الإقصاء أو التقريب.. نفس منهج صب اللعنات.. أو صب وسكب الرحمات والبركات.. بالمزاج والهوي.. والذي فعله شرف ليس سوي دليل علي هشاشة الدولة وخضوعها للإملاءات.. ليس سوي دليل علي ان الدولة تنافق الشارع كما كان الشارع ينافق النظام السابق.
الثورة تمارس الإقصاء والتمييز حتي في الموت.. فقتلاها شهداء وقتلي الشرطة مثلا فطيس.. والدولة تسمع وتطيع والأحزاب والإعلام والساسة والمثقفون يتسابقون علي مغازلة الثورة ومعاكستها والإيقاع بها ثم الزواج منها بعد أن طلقوا النظام السابق بالثلاثة.. انه منطق استبدال زوج مكان زوج.. هؤلاء سرقوا فلوس وامتيازات النظام السابق ليشتروا بها مقاعد في اللانظام الجديد.
ثورة بلا قائد ولا أجندة مع دولة بلا رأس ولا هوية.. والوطن رهينة وطائرته مخطوفة ومصيره مجهول.. زمان كنا نعاني من ان القرار والخيوط كلها في يد ورأس رجل واحد.. والآن ليست الخيوط ولا القرار بيد أو برأس أحد.. "الخيوط والقرارات ووثائق أمن الدولة ملقاة في الشارع".. مصر لم تعد في خاطري ولا في دمي.. صارت علي قارعة الطريق.. مصر المحروسة صارت مصر المحروثة والمحروقة والمحرومة والمفضوحة.
* * *
النظام السابق حبس مصائرنا في رأسه وكرسيه وقصره.. واللا نظام الحالي حبسنا في ميدان التحرير وعلي الناصية وفي مقالب القمامة.. السجان والسجن تغيرا لكن المساجين لم يتغيروا.. زمان مع النظام السابق كانت الحكاية واضحة.. فساد واضح.. وشر واضح.. وظلم واضح.. واستبداد تام وموت زؤام.. كنا نرسو علي بر.. ولو كان بر الشر.. الآن لا نرسو علي أي بر.. لا خير ولا شر.. لا فساد ولا إصلاح.. لا ديمقراطية ولا ديكتاتورية.. لا طرح ولا جمع.. كل شيء عندنا بلا معالم.. يصعب وصفه وتحديده.. "نفتح الشباك ولا نسد الشباك".. القادم أفضل أم أسوأ؟ "أفضل بأمارة إيه؟.. وأسوأ بأمارة إيه؟".. هل هي آلام الشفاء أم سكرات الموت؟
لم أكن أود أن أسأل كثيرا.. كنت أحب أن يسألني الأصدقاء لتكون لدي اجابات تشفي الغليل.. لكنني أسألهم وأعلم انهم مثلي لا يجيدون ولا يجدون أجوبة.. فالبلد بلا حكيم نسأله.. البلد بلا كبير لنلوذ به.. البلد بلا حائط لنستند إليه.. مصر المحروسة صارت محروثة.. لكنهم لا يحرثونها ليزرعوها خيرا وبركة وديمقراطية.. وإنما هو نوع مقيت من التجريف.. انهم يقلعون ولا يزرعون.. يسقطون ولا يقيمون.. يهدمون ولا يبنون.. وتسألني: من هؤلاء الذين يرتكبون كل الجرائم؟ فأقول: لا أعرف علي وجه التحديد.. أري جريمة ولا أري مجرماً.. أري حرقا ولا أري حارقاً.. أري حرثاً ولا أري حارثاً أري رءوساً أينعت وحان قطافها ولا أري سيفا يقطفها.. أري فوضي ولا أعرف صانعها.. أري وطنا هان علينا جميعا.. نتبادل خطفه ونطلب فدية تلو أخري.. تنبادل طعنه ونهتف له.. أري وطنا نقتله ونمشي في جنازته نولول عليه ونتعارك علي تركته الهزيلة.. أري المصريين ينتحرون بطريقة مبتكرة وجديدة.. أراهم ينتحرون بنحر الوطن.
هل هي سوداء إلي هذا الحد؟.. ربما لا.. "ربما أنا عجوز فرح" أتعجل الخلاص قبل أن ينقضي أجلي.. الشباب ليسوا في عجلة من أمرهم.. مستعدون للتعايش مع هذه الفوضي حتي تزول وتنقشع لان في أعمارهم بقية.. أما نحن العواجيز فنتعجل "نفسنا نشوف يوم عدل قبل ما نموت".. نتمني ألا يجعلنا اليوم نتحسر علي الأمس بكل شروره وآثامه وألا يجعلنا الغد نتحسر علي اليوم بكل ضبابيته وغيومه.
فرحنا بالثورة لكننا نخشي اغتيال فرحتنا.. رقصنا للثورة لكننا لا نريدها أن تتحول إلي رقصة الموت أو رقصة طير مذبوح من الألم.. الخوف يغتال الفرحة.. الرعب يسرق السعادة.. الضبابية والفوضي تغتالان الأمل.. فرحنا بعد عقم طويل وظلام دامس بأن مصر أصبحت حبلي بالثورة وحبلي بالفجر الجديد.. وحبلي بالديمقراطية.. لكننا لا نريد أن نصدم بأنه حمل كاذب.. وان الوطن تمخص فولد فأرا ولم يلد فجراًً.. طال ليلنا في انتظار انبلاج الصبح.. قلنا إن ليالينا حبلي بالفجر وسوف يتبين لنا الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر.. ولا نريد أن يكون حملنا وحلمنا كاذبين.. لا نريد أن يتمخض ليلنا فيلد فأرا وفقراً ولا يلد فجراً.
* * *
نظرة
لا تصدق أحداً.. فلو صدقت كل بلاغات الفساد لانتهي الأمر بالتحفظ علي أموال كل رجال النيابة والرقابة والقضاء.. ولو صدقت شائعات البلطجة والقتل والترويع لرأينا نهر نيل آخر باللون الأحمر.. هناك فساد لكن هناك أيضاًً كيدا وتصفية حسابات.. هناك جرائم وبلطجة وقتل ولكن هناك خيالا واسعا لدي الناس.. الثورة خلقت نوعا من الفوضي المعلوماتية والاخبارية.. الصحف تنشر الآن اخبارا من المقاهي والشوارع والأزقة.. لان الدولة الرسمية معطلة ومغلقة للتحسينات وليست مصدرا للمعلومات.. لذلك عليك أن نتسلح بالشك.. وأن تعد أصابعك جيدا في كل مرة تصافح فيها أحداً!!

ليست هناك تعليقات: